مدينة تلمسان كانت واحدة من أهم المدن الإسلامية قبل العصر العثماني. وهي مدينة جزائرية تأثرت بالحضارة الأندلسية العظيمة، وتمتعت بمقومات ضخمة جعلت منها حاضرة المغرب الأوسط.
لم تمر دولة من الدويلات التي تأسست بالمغرب الأوسط دون أن يكون لتلك المدينة دور في ازدهار هذه الدولة، فبقيت تلك المدينة في مواجهة العديد من المخاطر التي أحاطت بها حتى نجح العثمانيون في إسقاطها وضمها إلى إمبراطوريتهم.
مدينة تلمسان الجزائرية
متى وطأت قدم الإنسان مدينة تلمسان لأول مرة؟
هذا السؤال حير المؤرخين، واختلفت آراؤهم في تحديد الفترة الأولى التي استوطنت فيها تلمسان بسكان.
فهناك من يقول أن إنسان ما قبل التاريخ قد عاش في تلمسان، واستدلوا على ذلك ببقايا الآثار التي تم العثور عليها، والتي تعود لفترة ما قبل التاريخ.
وهناك من قال أن النبي سليمان عليه السلام نزل بها شهراً، كما أن هناك رأياً آخر يقول بأن الخضر وهو الرجل الصالح الشهير في قصة النبي موسى عليه السلام أقام فيها جداره الشهير، لكن إبن خلدون قلل من تلك الرواية.
أصل تسمية تلمسان
كانت أول المسميات التي أطلقت على مدينة تلمسان التي تقع في شمال غرب الجزائر هو اسم "أغادير" الذي يعود لأصل فينيقي قبل أن يدخل إلى اللغة الأمازيغية، ويعني "الينبوع الجاف".
وقال بعضهم أنها مشتقة من كلمة "الجدار" العربية، وهي إشارة إلى الجدار الذي ورد في قصة النبي موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف.
مدينة تلمسان في العصور المختلفة حتى عصر الموحدين
أسس الفينيقيون مدينة شمال تلمسان وسموها بمدينة "رشقون"، ثم احتل الرومان الجزائر، حيث بنوا مستعمرة عسكرية في تلمسان عام 222 للميلاد، وتحولت تلك المستعمرة إلى مدينة تحمل اسم "بوماريا"، حيث احتلت أهمية كبيرة لدى الرومان بسبب موقعها الاستراتيجي.
كما أن "بوماريا" كانت ملتقى طرق تجارية مهمة بين مدينة "قرطاجنة" التي تقع في إسبانيا و"طبنة" التي تقع في الشرق الجزائري، حيث بنوا بها قناة لحمل الماء العذب، والتي يُطلق عليها اليوم "ساقية النصارى".
بعد الفتح الإسلامي لتلمسان، أصبحت مركزاً إدارياً هاماً للمسلمين، وقد أكد القائد طارق بن زياد، فاتح الأندلس، على مركزيتها عندما اعتمدها كقاعدة خلفية للمسلمين.
وبعد دخول تلمسان تحت سيطرة الأدارسة في المغرب الأقصى، أصبحت تمثل الحد الفاصل بينهم وبين الأغالبة ولاة العباسيين في المنطقة.
وقد شهدت تلمسان بعد انهيار دولة الأدارسة صراعاً عباسياً فاطمياً عليها استمر لأكثر من قرن، حتى دخلت المدينة تحت السيطرة المرابطية، حيث ظلت مركزاً مهماً بالنسبة لهم.
وقد قام يوسف بن تاشفين بإعادة بناء المدينة من جديد لتكون معسكراً لجيشه، ودعمها بسرايا القصر القديم وحمام الصباغين، وأحياء جديدة، وأسوار، وأبواب على شاكلة باب القرمادين.
كما تحولت مدينة تلمسان إلى قطب جامع لعلماء الصوفية، ومنارة علمية تحط بها رحال العلماء للقيام بالمناظرات العلمية، حتى صار المؤرخون يطلقون عليها لقب "العاصمة الثانية للمرابطين" بعد مراكش.
وكانت تلمسان تعرف في عصر المرابطين باسم "تاقرارت"، والذي يعني في اللغة الأمازيغية "معسكر". ثم جاء الموحدون الذين أسقطوا دولة المرابطين، لتفقد تلمسان جزءًا من مكانتها لفترة من الوقت، بعد أن دمر عبد المؤمن بن علي أسوار المدينة عام 1145 للميلاد.
لكن ما لبث أن استعادت تلمسان مكانتها، فقد استثمر الموحدون في المدينة بسخاء، فشيدوا القلاع، وبنوا المنازل الكبيرة والقصور، الأمر الذي أسهم في تطور مدينة تلمسان.
ها هي دولة صاعدة، توشك على الإمساك بزمام الأمور في تلمسان، والاستقلال عن دولة الموحدين. إنهم بنو عبد الواد أو بنو زيان. فكيف ستؤول الأمور في تلمسان يا ترى؟
مدينة تلمسان في عصر بني زيان
يعود أصل بني زيان إلى قبيلة زناتة، وهي إحدى أكبر القبائل العرقية ذات الأصول الأمازيغية التي سكنت في بلاد المغرب.
وكان بنو زيان يتنقلون في الصحراء الكبرى خلف الماء والكلأ والمراعي حتى استقروا في تلمسان، ووصلوا إلى حكم الجزائر من قبل الموحدين.
وبين عامي 1229 و 1235 للميلاد، شهدت تلمسان أحداث عنف وفوضى قادها شيوخ مدينة تلمسان، فحاول والي المنطقة، أبو سعيد عثمان، القضاء على وجود بني زيان والتخلص منهم، وإلقاء القبض على مشايخهم بعد أن اتسعت رقعة حكمهم في المنطقة.
استغل بنو زيان حالة التخبط والصراع على الحكم في إقليم تلمسان، ورغبة الموحدين في تصفية كبار القبيلة لإضعاف قوتها وإخضاعها لدولتهم، في الصعود إلى الحكم والإمساك بزمام الأمور في المنطقة عام 1235 للميلاد.
كان أول حكام الزيانيين هو يغمراسن بن زيان، الذي وصل إلى سدة الحكم على إقليم تلمسان بعد أن كتب إليه الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد بن المأمون، بتولي الحكم على ولاية المغرب الأوسط، وعاصمتها تلمسان.
وبعد فترة وجيزة من بداية حكمه، استغل يغمراسن تراجع الدولة الموحدية وتداعي حكمها لتوسيع حدوده على حساب أقاليمها، ثم ألغى سلطة الموحدين على تلمسان واستقل بها مع إبقائه على الدعاء والخطبة للخليفة الموحدي وذكر اسمه في السكة.
واستمر عهده حتى عام 1282 للميلاد، مما مكنه من توطيد ملكه وتأسيس نظم دولة جديدة بالمغرب الأوسط.
لم يكن حكم تلمسان سهلاً أبدًا، فموقع المدينة وسط الدولة الحفصية في تونس والدولة المرينية في المغرب جعلها تعيش فترات صعبة، خاصة مع بداية حكمها وبسط سلطانها على المغرب الأوسط.
فقد شهدت تلك الفترة حروبًا عدة بين الزيانيين والحفصيين والمرينيين.
يمكن القول أن النزاع كان سيد الموقف في العلاقات بين هذه الدول الثلاثة في الغرب الإسلامي، فكلما سنحت الفرصة لإحدى الدول، استغلتها بهدف القضاء على الدولة الخصم.
وكانت مدينة تلمسان أكثر المتضررين، خصوصاً من الحصار الذي فرضه السلطان يوسف بن يعقوب المريني على المدينة لمدة 8 سنوات.
هذا الحصار أجبر سكان تلمسان على أكل القطط والكلاب وأجساد الموتى.
كما أدى العداء المفرط بين الدولتين الزيانية والمرينية إلى جعل مدينة تلمسان ملجأ للهاربين عن طاعة السلطان المريني.
وفي عام 1328 للميلاد، هزم الزيانيون الحفصيين، مما أدى إلى زوال خطر تلك الدولة.
بعد أن أحكم الزيانيون سيطرتهم على تلمسان، أعلنوها عاصمة للدولة وبدأوا في الاهتمام بتطويرها.
فقد اهتمت الدولة بترقية الزراعة واتباع طرق علمية في هذا المجال، من ذلك استخراج المياه الجوفية وإقامة السدود وحفر القنوات والجداول للري.
كما اعتنوا بتنويع المنتجات الزراعية والإكثار من البساتين والحدائق حول المدن وفي وسطها.
وإلى جانب الزراعة، نشطت الصناعة وانتشرت صناعة النسيج بكافة أنواعه، والسجاد، والزرابي التي اشتهرت بها تلمسان والأوراس، وكذلك صناعة الأحذية والأثاث الرفيع وصناعة التطريز والأسلحة.
وقد توفرت لها اليد العاملة الماهرة التي هاجرت من الأندلس وبعض عواصم المشرق العربي.
كذلك أولى الزيانيون صناعة السفن التجارية والحربية اهتمامًا خاصًا، حتى إن الحكومة كانت تنفق عليها من مالها الخاص.
كما ازدهرت صناعة الأدوية، والتي تدل على مدى تقدم الكيمياء والطب وغيرها من الصناعات الأخرى.
كما ازدهرت التجارة في المنطقة في عهد الزيانيين، حيث نظموا تجارتهم مع دول شمال البحر الأبيض المتوسط ومع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وجارتيها تونس والمغرب الأقصى.
كذلك، شهدت مدينة تلمسان خلال حكم بني زيان حركة عمرانية ومعمارية وفنية واسعة، حيث احتوت على تقنيات وأساليب في الفنون التطبيقية على المباني المعمارية، وخاصة الدينية، من خلال الموروث الفني سواء المشرقي أو الأندلسي.
هذا الازدهار الاقتصادي والتجاري والزراعي أعاد الحياة إلى النشاط الفكري والعلمي في البلاد، حيث انتشرت العلوم والثقافة، ونبع كثير من الفقهاء والأدباء والمؤرخين.
وصارت الدولة الزيانية ملتقى لطلاب العلم من مختلف الأقطار.
مدينة تلمسان تحت السيادة العثمانية
استمر حكم بني زيان لأكثر من 300 عام، ثم انهارت بفعل العديد من العوامل، منها النزاع الداخلي بين أبناء الأسرة الحاكمة، الذين تنافسوا من أجل الوصول إلى الحكم.
إلى جانب الحروب والصراعات الخارجية، التي أضعفت الدولة وخلخلت بنيتها القائمة عليها.
أضف إلى ذلك ظهور دويلات على الساحل، انفصلت عن قلب الدولة في تلمسان.
ثم جاء الغزو الصليبي الإسباني واحتلالهم مدينة بجاية عام 1504 للميلاد، ثم استيلائهم على وهران، ثم سعيهم للاستيلاء على الجزائر.
وعاشت هذه المدينة تحت تهديد المدافع الإسبانية، وعجز بنو زيان عن التصدي لهم.
وأمام الخطر الإسباني المتصاعد واحتلالهم معظم السواحل الجزائرية، استنجد أعيان مدينة الجزائر بالأخوين عروج وخير الدين بربروس لطرد الإسبان.
فقبل الأخوان طلب أهالي الجزائر وتمكنوا من تحرير سواحل مدينة الجزائر.
وبطلب من خير الدين بربروس، توجه أهالي مدينة الجزائر مجدداً برسالة ثانية، هذه المرة إلى السلطان العثماني سليم الأول، يطلبون فيها قبول انضمام الجزائر إلى لواء الدولة العثمانية، بتعيين بربروس حاكمًا لتصبح مدينة الجزائر عاصمة للحكم العثماني.
واستمرت محاولة العثمانيين في ضم تلمسان إلى أن سقطت الدولة الزيانية عام 1554 للميلاد.
رأى حكام الجزائر العثمانيون أن تلمسان مشكلة معقدة، حتى إن عروج كان يرى أن هذه المدينة هي مصدر جميع الفتن.
وهكذا اختاروا مدينة الجزائر لتصبح عاصمة للحكم العثماني.
قسم :
معالم