السلطانة نوربانو الجارية التي حكمت العثمانيين
نوربانو الجارية التي حكمت العثمانيين، قتلتْ أبناء زوجها الخمسة، وأمرت بعدم دفن زوجها لمدة اثني عشر يوماً و استطاعت أن تحكم العثمانيين لفترة طويلة دون أن ينافسها أحد كما كان لها حظ عظيم من الجمال والذكاء والحكمة، وقد كلل كل ذلك وقوع السلطان سليم الثاني في غرامها بجنون، فتحولت من جارية يهودية إلى زوجة سلطان وأم سلطان.
من هي السلطانة نوربانو؟
ولدت نوربانو باسم "سيسيليا" أو "أوليفيا فينيير-بافو" أو "راشيل" أو "كالي كارتنو"، وقد اختلف المؤرخون في أصلها، فمنهم من يرجح كونها يونانية، ومنهم من يؤكد أن والدها هو رجل أرستقراطي من عائلة يهودية.
ولدت في عام 1525، ولم يُعرف الكثير عن طفولتها، إلا أن القول الشائع هو أنها اختُطِفَتْ على يد أمير البحار "خير الدين بارباروسا" لتُباعَ كجارية في قصر الباب العالي.
وقد تمتعت بجمالٍ أخاد وذكاءٍ شديد، وامتلكت لسانًا معسولًا، استطاعت به أن تسحر السلطانة خرم سلطان، زوجة السلطان سليمان القانوني وأم السلطان سليم الثاني، لتنال ترشيح الأخيرة لها وتصبح زوجةَ ابنها، سليم.
لقاء نوربانو والأمير سليم
منذ اللقاء الأول بينهما، استطاعت نوربانو أن تسحر الأمير سليم بجمالها وذكائها ونباهتها و لباقتها في الكلام، ومع تعلق الأمير بها، أسلمت على يديه، وهو الذي أطلق عليها اسم "نوربانو"، أي "سيدة النور"، وقد أغدق عليها سليم الثاني بالامتيازات والهدايا بعد أن أنجبت له ابنه الأول، الأمير مراد، داخل المصيف الجبلي "بوزداغ" بمدينة "مانيسا"، التي كان سليم حاكمها باعتباره وليًا للعهد.
وبعد أن أصبحت أمًا لأمير ينتمي لسلالة العثمانية الحاكمة، بدأت نوربانو على الفور في الاندماج في الصراعات داخل الحرملك، التي شكلت جزءًا لا يتجزأ من معالم الحكم في القرن السادس عشر، وكانت هذه الصراعات سببًا في زيادة نفوذ سلطة الحرملك والسلطانات، وتنفيذ أوامرهم دون التقيد بمصلحة الدولة العثمانية العظمى.
تنصيب السلطان سليم الثاني سلطانًا للدولة
أدى هذا إلى زعزعة نفوذ الدولة العثمانية، وخاصة بعد تراجع نفوذ السلطان سليمان القانوني، وكونت نوربانو شبكةً واسعة النطاق من الجواسيس داخل القصر، وعندما اندلع الصراع بين أبناء السلطان سليمان حول من سيخلفه "بايزيد" أو "سليم"، استطاعت السلطانه نوربانو، بفضل جواسيسها، تحقيق النصر لزوجها بعد وفاة السلطان سليم عام 1566 ميلاديًا .
وعُرِفَ زوجُها فيما بعد باسم السلطان "سليم الثاني"، الذي كان يتميز بانخراطه في العلاقات النسائية وحبه للخمر، ولم يكن لديه حكمة أو قدوة أو قدرة على إدارة شؤون الدولة مثل ما كان يتمتع بها أبيه، وفور تنصيب السلطان سليم الثاني سلطانًا للدولة العثمانية، نزعت نوربانو اخته "مهرماه" أو "محرمة" بنت السلطان سليمان عن رئاسة شؤون الحرملك، لتصبح نوربانو هي سيدة الحرملك الأولى والمتحكمة الرئيسية في شؤونه.
وأصبحت نوربانو، بفضل زوجها السكير، الآمرة الناهية في القصر، وبسبب ذلك تزايدت العداوة بين السلطانتين، خاصة بعد أن منح السلطان سليم لقبًا شرفيًا مهمًا لأخته "مهرماه"، وهو اللقب الذي حاولت السلطانة نوربانو حرمانها منه أيضًا.
نوربانو وسيطرتها على الدولة العثمانية
وامتد نفوذ نوربانو حتى تحكمت في العلاقات بالدول الخارجية، وأصبحت تسيطر على معظم المعاهدات والاتفاقيات التجارية التي تمت في ذلك الوقت، وكانت تميل إلى التعامل مع مدينة البندقية بشكل خاص، وتمكنت نوربانو من تحويل كافة الرجال السياسيين في الدولة العثمانية إلى مجرد أتباع وحلفاء لها، بما في ذلك كبير الخصيان في الحرملك، وقرَّبت السلطانة رجال الأعمال اليهود منها، ومنحتهم نفوذاً واسعاً في الدولة، ومنهم سيدة الأعمال "استر هاندلي" التي تعتبر حلقة الوصل بين نوربانو والعالم الخارجي.
لعبت سيدة الأعمال "استر هاندلي" دور الوسيط المالي بين نوربانو وبين أغلب علاقاتها المالية الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة التي جمعتها بدوق جزيرة ناكسس، "السير جوزيف ناسي"، وقد ساعدت نوربانو الدوق في التقرب من السلطان سليم، حتى جمعته علاقة وثيقة به، لدرجة أنه تمكن من طرح مشروعٍ خطيرٍ هو الأول من نوعه في التاريخ، ويسبق حتى وعد بلفور لليهود.
اقترح الدوق ناسي على السلطان سليم الأول مشروعًا تاريخيًا لتأسيس دولةٍ لليهود في فلسطين العربية، ولكن السلطان سليم رفض هذا الاقتراح جزئيًا، وقام بتعويض الدوق بمنطقةٍ أخرى هي منطقة طبريا، ليقوم الدوق بتأسيس مشروعه عليها وتهجير اليهود إليها.
فوز نوربانو بلقب السلطانة الأم
لم يجد نفوذ نوربانو من يردعه، فقد عُرِفت تاريخيًا بأنها كانت تسعى لتخريب الدولة، مثل وسيطتها "استر هاندلي" التي عرف عنها دورها التخريبي وتزييف العملة العثمانية، وترويجها بهدف التأثير سلبًا على الوضع المالي للدولة العثمانية، واستمرت نوربانو في اكتساب الأعداء أكثر من الأصدقاء، وتؤكد المصادر التاريخية أنه لولا وجود الصدر الأعظم القوي حينذاك "سقو لولو محمد باشا"، لانهارت الدولة بسبب ضعف السلطان سليم الثاني وتحكم زوجته وأخته به.
بوفاة السلطان سليم الثاني عام 1547 ميلاديًا، لم تترك نوربانو نفسها لحظةً لتحزن على زوجها، بل بدأت في الاحتفال بلقب السلطانة الأم الذي فازت به بجدارة، وكانت أول من تحمل اللقب رسميًا بعد أربعين عامًا من وفاة والدة السلطان القانوني عام 1534 ميلاديًا.
مرة أخرى، وجدت نوربانو نفسها تعيد كتابة التاريخ، من خلال إعادة السيطرة على القصر بحدةٍ أشدّ، بعد السلطانة خرم التي كانت تفضل التأثير في قرارات سليمان القانوني في ظل، أما نوربانو، فكانت تمارس نفوذها بشكلٍ علني، وهذا ما لاحظه بشدة قناصل الدول الأوروبية المختلفة في إسطنبول، فقد اندمجت نوربانو في صراعات وحروب لتحديد من يخلف السلطان سليم من بين أبنائه.
مذبحة الأمراء على يد السلطانة الأم
تقول الشائعات بأن السلطانه نوربانو قامت بتنفيذ عملية قتل هي الابشع في تاريخ الدولة العثمانية، حيث نفذت مقتل خمسة من أبناء السلطان سليم واخوة ابنه مراد، لكي ينجح مراد ابنها في تولي الحكم بعد وفاة أبيه، كما منعت السلطانة نوربانو عن الاعلان عن وفاة السلطان سليم لان ابنها مراد لم يكن في اسطنبول وقتها، فأمرت بوضع جثة السلطان سليم في الصندوق واحاطتها بالثلج واحتفظت به في غرفتها لمدة اثنى عشر يوماً حتى وصول ابنها مراد.
فما أن بايعت ابنها مراد سلطانا على عرش الدولة العثمانية حتى أعلنت وفاة السلطان سليم. عرف ابنها باسم السلطان مراد الثالث واحتفظت هي بلقب السلطانة الام "دولتلو عصمتلو عفيفة نوربانو سلطانة" وتعني بالعربية "السلطانة نوربانو، حافظة الدولة، العفيفة ذات العصمة".
ولكن لا يوجد دليل تاريخي يثبت أنها قامت بتنفيذ عملية قتل لأي شخص، أو تم منع الإعلان عن وفاة السلطان سليم في تاريخ الدولة العثمانية.
الجارية صفية خاتون زوجة مراد الثالث
لكن مراد كان يشبه أباه، ضعيف الشخصية ولم يكن يريد الخروج من الحرملك، وعرف عنه كثرة علاقاته النسائية، وولعه الشديد بالنساء والجلوس بين الجواري، وبهذا كررت السلطانة نوربانو التاريخ ليصبح ابنها مثل زوجها ألعوبة في يدها، وكانت كبيرة موظفي الحرملك "جانفي داء كالفا" المتحكمة في علاقات مراد النسائية، تعمل كجاسوسة لصالح والدته التي كانت تريد معرفة من ستصبح زوجة ابنها، لكن ابنها أظهر تعلقا طفوليا ب "صفية خاتون"، الجارية الإيطالية التي انجذب اليها مراد ووجد فيها الكثير من صفات والدته.
من بين أربعين جارية، اختار مراد الثالث زوجته "صفية خاتون" التي أصبحت عدوةً واضحةً للسلطانة نوربانو، وبعد مقتل الصدر الأعظم "صقللي محمد باشا" بتحريضٍ من "صفية خاتون"، تولى وزراءٌ غير مؤهلين ولا حكماءٌ إدارة شؤون الدولة، فساءت الأمور بين السلطانات، وزادت سلطة الحرملك على شؤون الدولة، ومع ضعف نفوذ السلطانة مهرماه ووفاتها عام 1578 ميلاديًا، تركز الصراع بين السلطانة صفية خاتون والسلطانة الجدة نوربانو.
في البداية، وضعت الجدة نوربانو حفيدها محمد تحت الإقامة الجبرية، وأعادت تنظيم الحرملك وخصصت غرفة لصفية وابنها محمد، لكي تضمن بقائه تحت عينيها وتشرف شخصياً على تربيته، وذلك لكي يعترف بها كسلطانة بعد تسلمه العرش، ولا يعترف بأمه، وذلك بعد أن عرفت أن صفية خاتون تريد تنصيب ابنها محمد ولياً للعرش.
نهاية السلطانة نوربانو
في عمر السادسة وستين، وهو عمر متقدم جداً بالنسبة للقرن السادس عشر، انتشر في القصر بين الجواري أن الجدة نوربانو عاشت عمراً أطول مما ينبغي، وزاد عدد أعدائها، ويُقال إنها ماتت بالسم في عام 1583، ورجح المؤرخون أن يكون السبب هو عميل دسته "جمهورية جنوة" في قصرها، بسبب تخصيصها امتيازات تجارية لمدينة البندقية على حساب جنوة.
ومن المؤرخين من يرجح أن تكون صفية خاتون هي السبب في وفاة السلطانة نوربانو، حيث شوهدت تخرج من مخدع السلطانة مرتبكة يوم وفاتها، وكانت من أكبر المستفيدين من وفاتها، ولكن يبقى المؤكد أن الجواري كنَّ سببًا رئيسيًا في فساد وضعف الدولة العثمانية، حيث تلاعبن بالسلطة وبالرجال وبمصير الدولة، وتبقى نوربانو محتفظة بمكانها في التاريخ العثماني كأجمل سلطانة أم عرفتها الدولة العثمانية.
والجوارية التي استحوذت على السلطة في دولة آل عثمان خلال الربع الأخير من القرن السادس عشر كانت الحلقة الثانية في عصر سلطنة الحريم، الذي صار فيه الحرملك هو المدبر للأمور في السلطنة، وفي الحقيقة ليس رجال السلالة العثمانية.
المقالة ملهمة حقًا، شكراً للمشاركة.
محتوى قيم يستحق القراءة والمشاركة
المقالة جيدة جدا