غزوة مؤتة ونجاح الانسحاب التكتيكي لـ الصحابي خالد بن الوليد

غَزْوَةُ مُؤْتَة، أو سَريّةُ مُؤْتَة، هي الغزوة الأولى بين المسلمين والروم، غزوةٌ اندلعت على إثر الاعتداءات المتكررة من عرب الشام على المسلمين.

ليقرر المسلمون وضع حد لتلك الاعتداءات، ويلتقي جيش المسلمين مع جيش الروم في معركة حامية الوطيس.

ويظهر خالد بن الوليد لينقذ المسلمين من كارثة محققة، ويلقب بـ "سيف الله المسلول".

غزوة مؤتة، سرية مؤتة

متى كانت غزوة مؤتة ومن قائدها؟


الصراع بين الروم والمسلمين


كانت بداية الصراع بين المسلمين والروم من خلال عرب الشام، إذ يذكر المؤرخ علي الصلابي أن قبيلة كلب من قضاعة من عرب الشام دأبت على مضايقة المسلمين وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي من خلال إيذاء التجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة.

لذلك غزى رسول الله ﷺ قبيلة كلب بدومة الجندل في العام الخامس للهجرة.

كما أن رجالًا من جُذام ولَخْم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بـ حِسْمَى، بعد إنجازه مهمة عهد بها رسول الله ﷺ إليه، وسلبوا كل ما كان يحمله.

فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حِسْمَى في العام السادس للهجرة، ولم تقتصر اعتداءات عرب الشام على المسلمين عند هذا الحد، فقد قامت قبيلة مذحج وقُضاعة بالاعتداء على زيد بن حارثة ومن معه، كان ذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وذلك في العام السادس للهجرة.

وتوالت حوادث الاعتداء على المسلمين، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغسَّاني، حاكم بُصرى التابع لحاكم الروم، بقتل الحارث بن عُميرٍ الأزدي، مبعوث رسول الله ﷺ.

كما أساء الحارث بن أبي شمر الغسَّاني، حاكم دمشق، استقبال مبعوث رسول الله، وهدد بإعلان الحرب على المدينة.

ثم بعث رسول الله ﷺ سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات أطلاح، فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام، بل واحاطوا بالدعاة وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعاً، إلا أميرهم الذي تمكن بالرغم من إصابته من الوصول إلى المدينة، وأخبر رسول الله ﷺ بما حدث.

هذا وقد قام نصارى الشام بزعامة الروم بالاعتداء على كل من يعتنق الإسلام أو يفكر في ذلك، فقتلوا والي مَعَان حين أسلم، وقتلوا والي الشام من أسلم من عرب الشام.

التجهيز لغزوة مؤتة


أمام كل ذلك، قرر المسلمون وضع حد لذلك العدوان وتلك الاعتداءات، فدعى الرسول ﷺ المسلمين إلى التجهز لقتال نصارى العرب في الشام في العام الثامن للهجرة.

وكان الهدف من ذلك هو تأديب هؤلاء المعتدين التابعين للروم، وفرض هيبة الدَّولة الإسلاميَّة في تلك المناطق، بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل، وبحيث يأمن الدُّعاة المسلمون على أنفسهم، ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة.

واستجاب المسلمون للأمر النبوي، وحشدوا 3 آلاف مقاتل، وأمرهم ﷺ أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي، وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام، فإما أن يستجيبوا لدعوة الإسلام أو يدفعوا الجزية أو يقاتلوهم.

وقد اختار النبي ﷺ لقيادة الجيش زيد بن حارثة، فإن قُتِلَ زيد يتولى القيادة جعفر بن أبي طالب، وإن قتل جعفر تؤول القيادة إلى عبد الله بن رواحة.

وهكذا استعد المسلمون لأول غزوة لهم مع الروم، والتي أطلق عليها سَريّة مؤتة، فكيف ستؤول الأمور يا ترى؟

غزوة مؤتة


وصل الجيش الإسلامي إلى مَعَان من أرض الشام، ليجدوا أن نصارى العرب ومعهم الروم قد جمعوا جيوشا جرارة لمواجهتهم، فحشدت قبائل العرب 100 ألف مقاتل، وحشد هرقل بدوره 100 ألف من الروم.

أجل، لقد وجد جيش المسلمين البالغ عدده 3 آلاف مقاتل نفسه في مواجهة 200 ألف مقاتل من العدو، هذا من ناحية العدد، أما من ناحية العتاد فجند الروم كانوا يقاتلون بالحديد، بينما لم يكن للمسلمين غير دروع خفيفة.

فيما يتعلق بالسلاح، فإن سيوف المسلمين، برغم صلابتها وصناعتها البدائية، لم تكن تقارن بسيوف الروم الذين كانوا أصحاب القوة وأهل الحرب في ذلك الوقت.

وأمام هذا الجيش الهائل، أخذ المسلمون يتشاورون حول التصدي لهذا الحشد الضخم، فقال بعضهم:

نرسل إلى رسول الله ﷺ في المدينة، نخبره بحشود العدو، فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال.

وقال بعض منهم لقائد الجيش زيد بن حارثة:

لقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء.

ولكن عبدالله بن رواحة حسم الموقف بقوله:

يا قوم، والله إنَّ الذي تكرهون للَّذي خرجتم تطلبون الشَّهادة، وما نقاتل النَّاس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدِّين الَّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنَّما هي إحدى الحسنيين، إمَّا ظهورٌ وإمَّا شهادةٌ.

فألهبت كلماته مشاعر المسلمين، واندفع زيد بن حارثة بالجيش إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك، يسير ليصطدم بالروم.

واصطف المسلمون في مؤتة، وارتفعت صيحات التكبير، وحمل الراية زيد بن حارثة الذي أعطى إشارة البدء لأصحابه، ومن ثم إندفع كالسهم صوب الجيوش الرومانية.

وكان قتالا لم يشهد المسلمون مثله من قبل، وسالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموتى في كل مكان.

كانت ملحمة عظيمة، حيث قدم فيها المسلمون أدواراً بطولية.

فنجد القائد زيد بن حارثة يستبسل في القتال ويتوغل في صفوف الأعداء، وهو يحمل راية رسول الله ﷺ، حتى يسقط شهيدا برماح الروم، ليحمل الراية من بعده جعفر بن أبي طالب، الذي انبرى يتصدى لجموع الروم.

فكثفوا حملاتهم عليه وأحاطوا به، فلم تلن عزيمته، وإنما استمر في القتال، ونزل عن فرسه ليقاتل الروم.

وأخذ اللواء بيده اليمنى، فقطعت، فأخذه بشماله، فقطعت، فاحتضنه بعضديه، وانحنى عليه حتى سقط شهيدا بدوره، بعد أن أصيب بـ 90 بين طعنة برمح أو ضربةٍ بسيفٍ أو رميةٍ بسهمٍ، كلها في صدره.

وبعد استشهاده، تسلم الراية من بعده آخر قادة الجيش الإسلامي، عبد الله بن رواحة، الذي ما لبث أن استشهد بدوره، وهكذا استشهد قادة الجيش الثلاثة.

دور خالد بن الوليد في غزوة مؤتة


اجتمع المسلمون ليختاروا قائدا جديدا، فوقع اختيارهم على خالد بن الوليد، الذي قاتل قتالا عظيما، حتى أنه تحطم في يده 9 سيوف أثناء المعركة.

ومع ذلك، فقد استمر في قتاله، يغير سيفا بعد الآخر، ويقاتل في معركة ضارية، لكنه ثبت ثباتا عجيبا، وثبت المسلمون بثباته، واستمر القتال يوما كاملاً، ما تراجع المسلمون فيه لحظة واحدة، حتى حل المساء.

وقد أدرك خالد بحنكته العسكرية أن جيش الروم سينتصر لا محالة، نظرا لتفوقه الكبير في عدد الجنود والعتاد، وهكذا كان الحل الوحيد في تلك الظروف هو الانسحاب بالجيش، والمحافظة على من تبقى من المسلمين.

توصل خالد إلى خطة عبقرية، يستطيع بها تضليل الروم والانسحاب بجيش المسلمين، فجعل الخيل طوال الليل تجري في أرض المعركة، لتثير الغبار الكثيف.

فيخيّل للرومان أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين، ونقل خالد ميسرة الجيش إلى الميمنة والميمنة إلى الميسرة، ووضع المقدمة مكان المؤخرة والمؤخرة مكان المقدمة.

وكان الهدف من هذا التغيير هو أن تختلف الوجوه على الروم فيظنوا أن مددًا عظيمًا جاء لنجدة المسلمين.

كما جعل خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعة من الجنود المسلمين فوق أحد التلال، منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم من شغل إلا إثارة الغبار، لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين، وتمكن بذلك من خداع العدو الذي ظن بالفعل أن المدد قد وصل المسلمين.

وأمن خالد انسحاب المسلمين في الوقت الذي خشي فيه الروم من اللحاق بهم، خوفا من الوقوع في كمين، إذ لا يوجد جيش منتصر يقوم بالانسحاب.

وهكذا عاد خالد إلى المدينة بمن تبقى من جيش المسلمين، واستشهد في تلك العملية المذهلة 13 مسلماً فقط. فأنعم عليه النبي ﷺ بلقب سيف الله المسلول.

المصادر:

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال