الحضارة الإتروسكية، واحدة من أهم الحضارات التي لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ شبه الجزيرة الإيطالية. حضارة قامت قبل ظهور روما كقوة سياسية واقتصادية وحضارية، وتركت أثرًا كبيرًا في البلاد. حتى إنها كادت توحد إيطاليا كلها، لولا مزاحمة الاغريق والقرطاجيين ثم الرومان لها، لتسقط في النهاية أمام ضربات الفيالق الرومانية في معركة سنتينيوم. وتتعرض معالم تلك الحضارة للطمس والتدمير الشديد الذي ألحقته قوات روما بها. ليلفها الغموض حتى يومنا هذا.
من هم الاتروسكان؟
متى ظهرت الحضارة الإتروسكية؟
في فترة مبكرة من تاريخ إيطاليا، ظهرت الحضارة الإتروسكية، ويعتقد بعض المؤرخين أن الاتروسكيين استوطنوا إيطاليا حوال عام 800 قبل الميلاد.
ويبدو أن عددهم كان محدودًا عند نزولهم في البداية واستقرارهم في الجزء الأوسط من ساحل إيطاليا الغربي.
ومن هناك، أخذوا يبسطون سيطرتهم حتى استولوا على معظم شبه الجزيرة شمالي نهر التيبر وبعض النقاط الساحلية.
ومن ثم، أخذوا يتوغلون في الداخل حتى عام 550 قبل الميلاد عندما أصبحت كل إيطاليا تقريباً تحت النفوذ السياسي وكذلك التأثير الثقافي والحضاري للإتروسكيون.
من أين جاء الاتروسكيون؟
من أين أتى الاتروسكيون؟ سؤال حير المؤرخين المهتمين بالحضارة الإتروسكية، اختلفوا حول ما إذا كان الإتروسكيون يرجع أصلهم إلى إيطاليا، أم أنهم وفدوا إليها من آسيا الصغرى أو من أواسط أوروبا؟
فبسبب انعزال هذه الحضارة، وعدم اتصال لغتها بأي من اللغات الأوروبية القديمة، ما زال الجدل يحوم حول أصل هذه الشعوب ومنحدرها. دون التوصل حتى اليوم إلى حقيقة علمية دامغة.
لكن لدينا عدة نظريات حول الأصول الجغرافية للإتروسكيين. فيذكر الشاعر اليوناني هيسيود أنهم وفدوا إلى إيطاليا في حوال عام 750 قبل الميلاد من أيونيا اليونانية في آسيا الصغرى.
أما المؤرخ الإغريقي هيردوت، فقد ذهب إلى أنهم أتوا من ليديا في غرب آسيا صغرى. وقد اضطر قسم من شعب ليديا إلى النزوح عن وطنهم بسبب مجاعة كبيرة.
وقد غادر هؤلاء ميناء سميرنة وهاموا على وجوههم في البحر زمنا، إلى أن ألقوا مراسيهم عند سواحل إيطاليا الوسطى في إمبريا.
وبعد مرور مئات السنين، كانوا قد وطّدوا أنفسهم هناك وشيدوا مدنًا لهم، وتركوا اسمهم القديم الليدين، أصبح اسمهم التورينيس.
وهذه النظرية هي الأكثر قبولًا لدى علماء التاريخ والآثار والفنون، وذلك بالاسناد إلى شواهد عدة، أبرزها سمة تراثهم وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية.
ومنها مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع، التي تمثل ما كانت عليه في المجتمع الكنعاني والتذمري والنبطي. وكذلك اعتقادهم بدين منزل دونت تعاليمه في كتب مقدسة.
هناك نظريات أخرى تشير إلى أنهم اجتازوا جبال الألب الأوروبية عبر البلاد الشمالية.
كما أن هناك نظرية العالم ديني داليكارناس التي تقول بأنهم سكان أصليون وجدوا منذ القدم في المنطقة، وبشكل هادئ ومعزول عن الآخرين انفردوا بلغتهم وحضارتهم ومعتقداتهم. ويفسر ذلك تميزهم الفريد في هذه الجوانب.
الجانب الحربي للحضارة الإتروسكية
مما يأسف له حقاً أن الوثائق والكتابات عن الحضارة الإتروسكية نادرة جداً. وكل ما يعرف عنهم هو أنهم ظهروا في توسكانة، أو كما تعرف بإترورية، في مطلع القرن السابع قبل الميلاد.
وراحوا ينشطون زراعياً وصناعياً وتجارياً، ويمدون نفوذهم شيئاً فشيئاً على المناطق المجاورة. ويشيدون المدن الحصينة.
ومع توسعاتهم، اصطدم الإتروسكيون بالإغريق في الجنوب، ونجحوا في طردهم من بعض المواقع بفضل مساعدة القرطاجيين لهم.
ليس هذا فحسب، بل إنهم حاولوا طرد الإغريق من اليونان الكبرى جنوبي إيطاليا.
فحاصروا مدينة كوماي، ولكن هيرون حاكم سيراكوزة الصقلية هب لنجدة المدينة. وأجبر الإتروسكيين على رفع الحصار عنها عام 474 قبل الميلاد.
بعد تراجع الإتروسكيين عن مدينة كوماي، بدأ انحصارهم عن جنوبي إيطاليا وأواسطها.
ومع تعرض مواصلاتهم مع الجنوب للخطر بسبب المتاعب التي كان يثيرها اللاتين، وهم سكان مقاطعة لاتيوم ومركزها روما، سعى الإتروسكيون إلى تأمين مواصلاتهم بحراً.
لكن تصدى لهم أسطول الإغريق بزعامة هيرون طاغية سيراكوزا. فحطم الأسطول الإتروسكي تمامًا، وهكذا ضاعت سيادة الإتروسكيين البحرية.
كما استطاع اللاتين مد سيطرتهم على أجزاء كبيرة من المدن الإتروسكية.
ثم تفاقم الوضع بظهور الأقوام الغالية في أقصى الشمال الإيطالي، التي عبرت جبال الألبوك واكتسحت سهل البو وهددت إترورية نفسها.
وربما يرجع السبب في تلك النكبات التي أصابت المدن الإتروسكية إلى عدم وجود وحدة نافذة بين المدن الإتروسكية المختلفة، فقد كانت إترورية تتألف من إتحاد مدن ودويلات مستقلة ومتنافسة فيما بينها.
ولم يحل منتصف القرن الرابع قبل الميلاد حتى كان الإتروسكيون قد فقدوا جميع مواقعهم خارج إترورية.
وفي تلك الفترة، صعد نجم الرومان الذين أقاموا لهم دولة قوية في لاتيوم، واستخدموها قاعدة انطلاق لتوسعاتهم.
وقد استطاعت روما في الفترة ما بين بداية القرن الرابع ومنتصف القرن الثالث قبل الميلاد إخضاع معظم المناطق التي كانت في يد الإتروسكيين والإغريق والغاليين، وتوحيد شبه الجزيرة الإيطالية بزعامتها. وسقطت المدن الإتروسكية الواحدة تلو الأخرى.
وفي المرحلة الأخيرة من تاريخ الإيتروسكيين، فقدت إترورية استقلالها السياسي بعد معركة سنتينيوم عام 195 قبل الميلاد. وانضمت إلى الاتحاد الإيطالي الروماني مع الحفاظ على هويتها الفريدة ولغتها.
ثم ألحقت بروما نهائيا في بداية القرن الأول قبل الميلاد، وحملت سماتها وحقوق المواطنة فيها.
وعلى الرغم من اضمحلال نفوذهم السياسي، إلا أن مؤثرات الإتروسكيين الحضارية استمرت كرافد هام في الحضارة الرومانية.
السمات العامة للحضارة الإتروسكية
الجانب السياسي للحضارة الإتروسكية
فمن الناحية السياسية، كان لكل مدينة مجلس ينتخب أحد أعضائه حاكمًا للمدينة.
وكانت المدن الإتروسكية المختلفة توفد ممثلين عنها إلى مدينة بلزنة في وقت محدد من كل عام ليناقشوا قضاياهم ومصالحهم المشتركة.
وفي القرن السادس قبل الميلاد، عندما بلغ الإتروسكيون أوج ازدهارهم وعظمتهم، قاموا بانتخاب حاكم عام يمثل اتحادهم ويملك صلاحيات التفاوض مع الأطراف الخارجية واتخاذ القرار في قضايا السلم والحرب ووضع الخطط.
الجانب الاقتصادي للحضارة الإتروسكية
ومن الناحية الاقتصادية، عاشت المدن الإتروسكية حياة مترفة نسبيا. وكان اقتصادهم يقوم على الزراعة والصناعة والتجارة.
وقد اشتهرت إترورية بخصب تربتها ووفرة غلاتها. وكانت تزرع الحبوب والأشجار والخضروات، وتصدر إلى المدن الأخرى ما زاد عن حاجتها. وتتبادل منتجاتها معها.
وإلى جانب الزراعة، تفوق الاتروسكيون في أعمال التعدين ومعالجة الحديد. وقد شاعت شهرة مدن إيتروسكية بمسكوكاتها من الحديد والبرونز والحلي الذهبية والفضية. واشتهر بعضها بصناعة الخزف والفخار.
أما التجارة عند الاتروسكيين، فقد صارت جنبا إلى جنب مع التوسع الإتروسكي في شبه الجزيرة. وبلغت أوج ازدهارها في أواخر القرن السابع قبل الميلاد. وكانت علاقاتهم التجارية مزدهرة مع منطقتي الاتيوم وكامبانية بشكل خاص.
وبعد أن أسس الإتروسكيون مدينة كابوا في كامبانية جنوبي إيطاليا، اتسعت تجارتهم حتى شملت مناطق اليونان الكبرى، ولاسيما صقلية عن طريق بوسيدونية بوابة الإغريق في جنوب إيطاليا.
كما أقام الإتروسكيون علاقات تجارية واسعة مع بلاد اليونان القارية وبقية بلدان الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ومصر، وقرطاجة.
ديانة الحضارة الإتروسكية
أما عن ديانة الإتروسكيون، فقد آمنوا بالقوى الخفية وبالحياة الآخرة. ومع اعتقادهم بإمكانية التنبؤ بما يحدث ومعرفة إرادة المعبودات عن طريق تحري أحشاء الحيوانات ومراقبة الرعد والبرق وطيران الطيور.
وكان هناك كتب مقدسة للإتروكسيين تتضمن وصايا المعبودات وتبحث في شعار العبادة والعالم الآخر والقدر والإنسان وتدبير شؤون العالم.
أما معبودات الإتروسكيين وطرائق العبادة وترتيب المعابد ومذابحها، فتماثل نظائرها عند الإغريق والرومان.
وكان الاتروسكيين يعنون عناية خاصة بشعائر الموت. ويقيمون الأضرحة الضخمة، ويزودونها بالأدوات المنزلية والأسلحة وكل ما يلزم لاستعمال الميت في الحياة الأخرى.
قسم :
حضارة